كتاب ثقافة الداعيةكتب إسلامية

كتاب ثقافة الداعية

مقدمة الدعوة إلى الله تعالى، هي مهمَّة الرسل والأنبياء الذين هم خيرة الله من عباده، وسفراؤه إلى خلقه، وهي مهمَّة خلفاء الرسل وورثتهم، من العلماء العاملين، والربانيين الصادقين، وهي أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله تعالى، لأن ثمرتها هداية الناس إلى الحقِّ، وتحبيبهم في الخير، وتنفيرهم من الباطل والشرِّ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت:33) . والدعوة إلى الله هي الدعوة إلى دينه، واتباع هداه، وتحكيم منهجه في الأرض، وإفراده تعالى، بالعبادة والاستعانة والطاعة، والبراءة من كلِّ الطواغيت التي تُطاع من دون الله، وإحقاق ما أحقَّ الله، وإبطال ما أبطل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله. وبعبارة موجزة: الدعوة إلى الإسلام خالصًا متكاملًا، غير مشوب ولا مجزَّأ. ومثل هذه الدعوة إلى هذه المعاني ليست بالأمر الهيِّن الذي يُقابل بالإغضاء والسكوت، أو الموافقة والقَبول، وكيف تقبل هذه الدعوة العقول الجامدة أو القلوب المريضة، أو القوى المتسلِّطـة، أو الفـئات التـي أضلَّـها الهـوى أو أغرقها حبُّ الدنيا؟ لهذا كان لا بد لهذه الدعوة العظيمة الشاملة من دعاة أقوياء، يتناسبون مع عظمتها وشمولها، قادرين على أن يمدُّوا أشعة ضيائها في أنفس الناس وعقولهم وضمائرهم، بعد أن تشرق بها جوانحهم هم، وتستضىء بها حياتهم. إن هذا الداعية المنشود هو القوة المحركة (الموتور) أو "الدينامو" لعملية الدعوة وحركة سيرها. إن المشتغلين بالتربية والتعليم يقولون بعد دراسة وخبرة ومعاناة: إن المعلم هو العمود الفقري في عملية التربية، وهو الذي ينفخ فيها الرُّوح، ويُجرِي في عروقها دم الحياة، مع أن في مجال التعليم والتربية عوامل شتَّى، ومؤثِّرات أخرى كثيرة، من المنهج إلى الكتاب، إلى الإدارة، إلى الجوِّ المدرسي، إلى التوجيه أو التفتيش، وكلُّها تؤثِّر في التوجيه والتأثير بنسب متفاوتة، ولكن يظلُّ المعلم هو العصب الحي للتعليم. فماذا يقول المشتغلون بالدعوة والإرشاد في شأن الداعية ومبلغ أثره، وهو العامل الفذ، الذي ينفرد بالتأثير والتوجيه في عملية الدعوة؟ إذ لا يشاركه في ذلك ـ عادة ـ منهج موضوع، ولا كتاب مقرَّر، ولا جوٍّ، ولا إدارة، ولا توجيه، فالداعية وحده هو ـ في غالب الأمر ـ الإدارة والتوجيه والمنهج والكتاب والمعلم، وعليه وحده يقع عبء هذا كله؛ وهذا يجعل العناية بتكوين الدعاة، وإعدادهم الإعداد المتكامل، أمرا بالغ الأهمية، وإلا أُصيبت كلُّ مشروعات الدعوة بالخيبة والإخفاق، في الداخل والخارج، لأن شرطها الأول لم يتحقَّق، وهو الداعية المهيَّأ لحمل الرسالة. ومن هنا كان لا بد للداعية الذي يريد ـ أو نريد له ـ أن ينتصر في معركته على الجهل والهوى، والتسلُّط والفساد، أن يتسلَّح بأسلحة شتَّى لازمة له في الدفاع والهجوم، وأول هذه الأسلحة ـ ولا ريب ـ سلاح الإيمان، فبدونه يبطل كلُّ سلاح، وتفشل كلُّ ذخيرة، وليس الإيمان بالتمنِّي، ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل. وثاني هذه الأسلحة هو: الأخلاق، وهي من لوازم الإيمان الحقِّ وثماره، و"أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا"، وقد وصف الله سيد الدعاة من خلقه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4) ، وخاطبه بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ..} (آل عمران:159) . وثالث هذه الأسلحة هو: العلم أو الثقافة، فهذه هي العدَّة الفكرية للداعية، بجوار العدَّة الروحية والأخلاقية، والدعوة عطاء وإنفاق، ومَن لم يكن عنده علم ولا ثقافة، كيف يُعطى غيره، وفاقد الشيء لا يعطيه، ومَن لم يملك النصاب كيف يزكِّي؟ وحديثنا في هذا البحث عن هذا الجانب خاصة: الجانب الفكري أو الثقافي المطلوب للداعية المسلم. كيف يعدُّ الداعية نفسه، أو كيف نعدُّه نحن الإعداد الثقافي المنشود؟ وبعبارة أخرى: ما الثقافة اللازمة للداعية إن أردنا أن ننشئ مدرسة للدعاة، أو كلية للدعوة، أو أراد أحدنا أن يكوِّن من نفسه داعية قادرًا على التوجيه والتأثير؟ إن الجواب عن هذا السؤال هو موضوع هذا البحث الذي أعددتُه في الأصل للمؤتمر العالمي الأول لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة، الذي دعت إليه الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في صفر 1397هـ. وقد كنتُ أردتُه مختصرًا فطال بالرغم مني، ولعل في ذلك الخير، فالموضوع تتطلَّبه الحاجة اليوم، وبخاصة أن أكثر من كلية للدعوة أُنشئت وتُنشأ في عالمنا الإسلامي. ولقد تبيَّن لي أن الداعية في حاجة إلى مجموعة من الثقافات هي: 1- الثقافة الدينية 2- الثقافة التاريخية 3- الثقافة الأدبية واللغوية 4- الثقافة الإنسانية 5- الثقافة العلمية 6- الثقافة الواقعية والمطلوب من الداعية الناجح أن يتمثَّل هذه الثقافات ويهضمها، ويكوِّن منها مزيجًا جديدًا طيبًا نافعًا، أشبه شيء بالنحلة التي تأكل من كلِّ الثمرات، سالكة سُبل ربها ذللاً، لتخرج منها بعد ذلك شرابًا مختلفًا ألوانه، فيه شفاء للناس، كما أن فيه آية لقوم يتفكرون.
يوسف القرضاوي - يوسف عبد الله القرضاوي (9 سبتمبر 1926): عالم مصري مسلم يحمل الجنسية القطرية، ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين سابقا. ولد في قرية صفط تراب مركز المحلة الكبرى بمحافظة الغربية في مصر. ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام ❝ ❞ الصبر في القرآن ❝ ❞ جيل النصر المنشود ❝ ❞ الإسلام والعلمانية وجها لوجه ❝ ❞ المنتقى من كتاب الترغيب والترهيب للمنذري ❝ ❞ الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد ❝ ❞ دور الزكاة في علاج المشكلات الاقتصادية وشروط نجاحها ❝ ❞ ثقافتنا بين الانفتاح والانغلاق ❝ ❞ عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية ❝ الناشرين : ❞ جميع الحقوق محفوظة للمؤلف ❝ ❞ دار الشروق للنشر والتوزيع: مصر - لبنان ❝ ❞ دار القلم للنشر والتوزيع ❝ ❞ مؤسسة الرسالة ❝ ❞ المكتب الإسلامي للطباعة والنشر ❝ ❞ الأزهر الشريف ❝ ❞ دار الشروق ❝ ❞ مكتبة وهبة ❝ ❞ دار الصحوة للنشر ❝ ❞ مركز بحوث السنة والسيره -قطر ❝ ❞ مكتبة البنين ❝ ❱
من الدعوة والدعاة الدعوة والدفاع عن الإسلام - مكتبة كتب إسلامية.

وصف الكتاب : مقدمة

الدعوة إلى الله تعالى، هي مهمَّة الرسل والأنبياء الذين هم خيرة الله من عباده، وسفراؤه إلى خلقه، وهي مهمَّة خلفاء الرسل وورثتهم، من العلماء العاملين، والربانيين الصادقين، وهي أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله تعالى، لأن ثمرتها هداية الناس إلى الحقِّ، وتحبيبهم في الخير، وتنفيرهم من الباطل والشرِّ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت:33) .

والدعوة إلى الله هي الدعوة إلى دينه، واتباع هداه، وتحكيم منهجه في الأرض، وإفراده تعالى، بالعبادة والاستعانة والطاعة، والبراءة من كلِّ الطواغيت التي تُطاع من دون الله، وإحقاق ما أحقَّ الله، وإبطال ما أبطل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله. وبعبارة موجزة: الدعوة إلى الإسلام خالصًا متكاملًا، غير مشوب ولا مجزَّأ.

ومثل هذه الدعوة إلى هذه المعاني ليست بالأمر الهيِّن الذي يُقابل بالإغضاء والسكوت، أو الموافقة والقَبول، وكيف تقبل هذه الدعوة العقول الجامدة أو القلوب المريضة، أو القوى المتسلِّطـة، أو الفـئات التـي أضلَّـها الهـوى أو أغرقها حبُّ الدنيا؟ لهذا كان لا بد لهذه الدعوة العظيمة الشاملة من دعاة أقوياء، يتناسبون مع عظمتها وشمولها، قادرين على أن يمدُّوا أشعة ضيائها في أنفس الناس وعقولهم وضمائرهم، بعد أن تشرق بها جوانحهم هم، وتستضىء بها حياتهم. إن هذا الداعية المنشود هو القوة المحركة (الموتور) أو "الدينامو" لعملية الدعوة وحركة سيرها.

إن المشتغلين بالتربية والتعليم يقولون بعد دراسة وخبرة ومعاناة: إن المعلم هو العمود الفقري في عملية التربية، وهو الذي ينفخ فيها الرُّوح، ويُجرِي في عروقها دم الحياة، مع أن في مجال التعليم والتربية عوامل شتَّى، ومؤثِّرات أخرى كثيرة، من المنهج إلى الكتاب، إلى الإدارة، إلى الجوِّ المدرسي، إلى التوجيه أو التفتيش، وكلُّها تؤثِّر في التوجيه والتأثير بنسب متفاوتة، ولكن يظلُّ المعلم هو العصب الحي للتعليم.

فماذا يقول المشتغلون بالدعوة والإرشاد في شأن الداعية ومبلغ أثره، وهو العامل الفذ، الذي ينفرد بالتأثير والتوجيه في عملية الدعوة؟ إذ لا يشاركه في ذلك ـ عادة ـ منهج موضوع، ولا كتاب مقرَّر، ولا جوٍّ، ولا إدارة، ولا توجيه، فالداعية وحده هو ـ في غالب الأمر ـ الإدارة والتوجيه والمنهج والكتاب والمعلم، وعليه وحده يقع عبء هذا كله؛ وهذا يجعل العناية بتكوين الدعاة، وإعدادهم الإعداد المتكامل، أمرا بالغ الأهمية، وإلا أُصيبت كلُّ مشروعات الدعوة بالخيبة والإخفاق، في الداخل والخارج، لأن شرطها الأول لم يتحقَّق، وهو الداعية المهيَّأ لحمل الرسالة.

ومن هنا كان لا بد للداعية الذي يريد ـ أو نريد له ـ أن ينتصر في معركته على الجهل والهوى، والتسلُّط والفساد، أن يتسلَّح بأسلحة شتَّى لازمة له في الدفاع والهجوم، وأول هذه الأسلحة ـ ولا ريب ـ سلاح الإيمان، فبدونه يبطل كلُّ سلاح، وتفشل كلُّ ذخيرة، وليس الإيمان بالتمنِّي، ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل.

وثاني هذه الأسلحة هو: الأخلاق، وهي من لوازم الإيمان الحقِّ وثماره، و"أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا"، وقد وصف الله سيد الدعاة من خلقه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4) ، وخاطبه بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ..} (آل عمران:159) .

وثالث هذه الأسلحة هو: العلم أو الثقافة، فهذه هي العدَّة الفكرية للداعية، بجوار العدَّة الروحية والأخلاقية، والدعوة عطاء وإنفاق، ومَن لم يكن عنده علم ولا ثقافة، كيف يُعطى غيره، وفاقد الشيء لا يعطيه، ومَن لم يملك النصاب كيف يزكِّي؟

وحديثنا في هذا البحث عن هذا الجانب خاصة: الجانب الفكري أو الثقافي المطلوب للداعية المسلم. كيف يعدُّ الداعية نفسه، أو كيف نعدُّه نحن الإعداد الثقافي المنشود؟ وبعبارة أخرى: ما الثقافة اللازمة للداعية إن أردنا أن ننشئ مدرسة للدعاة، أو كلية للدعوة، أو أراد أحدنا أن يكوِّن من نفسه داعية قادرًا على التوجيه والتأثير؟

إن الجواب عن هذا السؤال هو موضوع هذا البحث الذي أعددتُه في الأصل للمؤتمر العالمي الأول لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة، الذي دعت إليه الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في صفر 1397هـ. وقد كنتُ أردتُه مختصرًا فطال بالرغم مني، ولعل في ذلك الخير، فالموضوع تتطلَّبه الحاجة اليوم، وبخاصة أن أكثر من كلية للدعوة أُنشئت وتُنشأ في عالمنا الإسلامي.

ولقد تبيَّن لي أن الداعية في حاجة إلى مجموعة من الثقافات هي:

1- الثقافة الدينية 2- الثقافة التاريخية

3- الثقافة الأدبية واللغوية 4- الثقافة الإنسانية

5- الثقافة العلمية 6- الثقافة الواقعية

والمطلوب من الداعية الناجح أن يتمثَّل هذه الثقافات ويهضمها، ويكوِّن منها مزيجًا جديدًا طيبًا نافعًا، أشبه شيء بالنحلة التي تأكل من كلِّ الثمرات، سالكة سُبل ربها ذللاً، لتخرج منها بعد ذلك شرابًا مختلفًا ألوانه، فيه شفاء للناس، كما أن فيه آية لقوم يتفكرون.

للكاتب/المؤلف : يوسف القرضاوي .
دار النشر : مكتبة وهبة .
سنة النشر : 1996م / 1417هـ .
عدد مرات التحميل : 783 مرّة / مرات.
تم اضافته في : السبت , 1 أكتوبر 2022م.

ولتسجيل ملاحظاتك ورأيك حول الكتاب يمكنك المشاركه في التعليقات من هنا:

مقدمة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهد الله فلا مضلَّ له، ومَن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه، ومَن دعا بدعوته، واهتدى بهديه إلى يوم الدين.

(وبعد)

فإن الدعوة إلى الله تعالى، هي مهمَّة الرسل والأنبياء الذين هم خيرة الله من عباده، وسفراؤه إلى خلقه، وهي مهمَّة خلفاء الرسل وورثتهم، من العلماء العاملين، والربانيين الصادقين، وهي أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله تعالى، لأن ثمرتها هداية الناس إلى الحقِّ، وتحبيبهم في الخير، وتنفيرهم من الباطل والشرِّ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت:33) .

والدعوة إلى الله هي الدعوة إلى دينه، واتباع هداه، وتحكيم منهجه في الأرض، وإفراده تعالى، بالعبادة والاستعانة والطاعة، والبراءة من كلِّ الطواغيت التي تُطاع من دون الله، وإحقاق ما أحقَّ الله، وإبطال ما أبطل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله. وبعبارة موجزة: الدعوة إلى الإسلام خالصًا متكاملًا، غير مشوب ولا مجزَّأ.

ومثل هذه الدعوة إلى هذه المعاني ليست بالأمر الهيِّن الذي يُقابل بالإغضاء والسكوت، أو الموافقة والقَبول، وكيف تقبل هذه الدعوة العقول الجامدة أو القلوب المريضة، أو القوى المتسلِّطـة، أو الفـئات التـي أضلَّـها الهـوى أو أغرقها حبُّ الدنيا؟ لهذا كان لا بد لهذه الدعوة العظيمة الشاملة من دعاة أقوياء، يتناسبون مع عظمتها وشمولها، قادرين على أن يمدُّوا أشعة ضيائها في أنفس الناس وعقولهم وضمائرهم، بعد أن تشرق بها جوانحهم هم، وتستضىء بها حياتهم. إن هذا الداعية المنشود هو القوة المحركة (الموتور) أو "الدينامو" لعملية الدعوة وحركة سيرها.

إن المشتغلين بالتربية والتعليم يقولون بعد دراسة وخبرة ومعاناة: إن المعلم هو العمود الفقري في عملية التربية، وهو الذي ينفخ فيها الرُّوح، ويُجرِي في عروقها دم الحياة، مع أن في مجال التعليم والتربية عوامل شتَّى، ومؤثِّرات أخرى كثيرة، من المنهج إلى الكتاب، إلى الإدارة، إلى الجوِّ المدرسي، إلى التوجيه أو التفتيش، وكلُّها تؤثِّر في التوجيه والتأثير بنسب متفاوتة، ولكن يظلُّ المعلم هو العصب الحي للتعليم.

فماذا يقول المشتغلون بالدعوة والإرشاد في شأن الداعية ومبلغ أثره، وهو العامل الفذ، الذي ينفرد بالتأثير والتوجيه في عملية الدعوة؟ إذ لا يشاركه في ذلك ـ عادة ـ منهج موضوع، ولا كتاب مقرَّر، ولا جوٍّ، ولا إدارة، ولا توجيه، فالداعية وحده هو ـ في غالب الأمر ـ الإدارة والتوجيه والمنهج والكتاب والمعلم، وعليه وحده يقع عبء هذا كله؛ وهذا يجعل العناية بتكوين الدعاة، وإعدادهم الإعداد المتكامل، أمرا بالغ الأهمية، وإلا أُصيبت كلُّ مشروعات الدعوة بالخيبة والإخفاق، في الداخل والخارج، لأن شرطها الأول لم يتحقَّق، وهو الداعية المهيَّأ لحمل الرسالة.

ومن هنا كان لا بد للداعية الذي يريد ـ أو نريد له ـ أن ينتصر في معركته على الجهل والهوى، والتسلُّط والفساد، أن يتسلَّح بأسلحة شتَّى لازمة له في الدفاع والهجوم، وأول هذه الأسلحة ـ ولا ريب ـ سلاح الإيمان، فبدونه يبطل كلُّ سلاح، وتفشل كلُّ ذخيرة، وليس الإيمان بالتمنِّي، ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل.

وثاني هذه الأسلحة هو: الأخلاق، وهي من لوازم الإيمان الحقِّ وثماره، و"أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا"، وقد وصف الله سيد الدعاة من خلقه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4) ، وخاطبه بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ..} (آل عمران:159) .

وثالث هذه الأسلحة هو: العلم أو الثقافة، فهذه هي العدَّة الفكرية للداعية، بجوار العدَّة الروحية والأخلاقية، والدعوة عطاء وإنفاق، ومَن لم يكن عنده علم ولا ثقافة، كيف يُعطى غيره، وفاقد الشيء لا يعطيه، ومَن لم يملك النصاب كيف يزكِّي؟

وحديثنا في هذا البحث عن هذا الجانب خاصة: الجانب الفكري أو الثقافي المطلوب للداعية المسلم. كيف يعدُّ الداعية نفسه، أو كيف نعدُّه نحن الإعداد الثقافي المنشود؟ وبعبارة أخرى: ما الثقافة اللازمة للداعية إن أردنا أن ننشئ مدرسة للدعاة، أو كلية للدعوة، أو أراد أحدنا أن يكوِّن من نفسه داعية قادرًا على التوجيه والتأثير؟

إن الجواب عن هذا السؤال هو موضوع هذا البحث الذي أعددتُه في الأصل للمؤتمر العالمي الأول لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة، الذي دعت إليه الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في صفر 1397هـ. وقد كنتُ أردتُه مختصرًا فطال بالرغم مني، ولعل في ذلك الخير، فالموضوع تتطلَّبه الحاجة اليوم، وبخاصة أن أكثر من كلية للدعوة أُنشئت وتُنشأ في عالمنا الإسلامي.

ولقد تبيَّن لي أن الداعية في حاجة إلى مجموعة من الثقافات هي:

1- الثقافة الدينية                2- الثقافة التاريخية

3- الثقافة الأدبية واللغوية      4- الثقافة الإنسانية 

5- الثقافة العلمية                6- الثقافة الواقعية

والمطلوب من الداعية الناجح أن يتمثَّل هذه الثقافات ويهضمها، ويكوِّن منها مزيجًا جديدًا طيبًا نافعًا، أشبه شيء بالنحلة التي تأكل من كلِّ الثمرات، سالكة سُبل ربها ذللاً، لتخرج منها بعد ذلك شرابًا مختلفًا ألوانه، فيه شفاء للناس، كما أن فيه آية لقوم يتفكرون.



نوع الكتاب : pdf.
اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل ثقافة الداعية
يوسف القرضاوي
يوسف القرضاوي
Yousef Al Qaradawi
يوسف عبد الله القرضاوي (9 سبتمبر 1926): عالم مصري مسلم يحمل الجنسية القطرية، ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين سابقا. ولد في قرية صفط تراب مركز المحلة الكبرى بمحافظة الغربية في مصر. ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام ❝ ❞ الصبر في القرآن ❝ ❞ جيل النصر المنشود ❝ ❞ الإسلام والعلمانية وجها لوجه ❝ ❞ المنتقى من كتاب الترغيب والترهيب للمنذري ❝ ❞ الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد ❝ ❞ دور الزكاة في علاج المشكلات الاقتصادية وشروط نجاحها ❝ ❞ ثقافتنا بين الانفتاح والانغلاق ❝ ❞ عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية ❝ الناشرين : ❞ جميع الحقوق محفوظة للمؤلف ❝ ❞ دار الشروق للنشر والتوزيع: مصر - لبنان ❝ ❞ دار القلم للنشر والتوزيع ❝ ❞ مؤسسة الرسالة ❝ ❞ المكتب الإسلامي للطباعة والنشر ❝ ❞ الأزهر الشريف ❝ ❞ دار الشروق ❝ ❞ مكتبة وهبة ❝ ❞ دار الصحوة للنشر ❝ ❞ مركز بحوث السنة والسيره -قطر ❝ ❞ مكتبة البنين ❝ ❱.



كتب اخرى في الدعوة والدعاة

أهداف دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب PDF

قراءة و تحميل كتاب أهداف دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب PDF مجانا

أهمية الدعوة PDF

قراءة و تحميل كتاب أهمية الدعوة PDF مجانا

أين المخرج فالصخرة أغلقت الغار PDF

قراءة و تحميل كتاب أين المخرج فالصخرة أغلقت الغار PDF مجانا

خطابنا الإسلامي في عصر العولمة PDF

قراءة و تحميل كتاب خطابنا الإسلامي في عصر العولمة PDF مجانا

الإذاعة والدعوة PDF

قراءة و تحميل كتاب الإذاعة والدعوة PDF مجانا

نصائح للمصلين في تصحيح أخطاء ومفاهيم، ونصائح للأئمة والخطباء PDF

قراءة و تحميل كتاب نصائح للمصلين في تصحيح أخطاء ومفاهيم، ونصائح للأئمة والخطباء PDF مجانا

المزيد من كتب علوم القرآن في مكتبة كتب علوم القرآن , المزيد من كتب إسلامية متنوعة في مكتبة كتب إسلامية متنوعة , المزيد من إسلامية متنوعة في مكتبة إسلامية متنوعة , المزيد من كتب الفقه العام في مكتبة كتب الفقه العام , المزيد من كتب التوحيد والعقيدة في مكتبة كتب التوحيد والعقيدة , المزيد من مؤلفات حول الحديث النبوي الشريف في مكتبة مؤلفات حول الحديث النبوي الشريف , المزيد من كتب أصول الفقه وقواعده في مكتبة كتب أصول الفقه وقواعده , المزيد من التراجم والأعلام في مكتبة التراجم والأعلام , المزيد من السنة النبوية الشريفة في مكتبة السنة النبوية الشريفة
عرض كل كتب إسلامية ..
اقرأ المزيد في مكتبة كتب إسلامية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب تقنية المعلومات , اقرأ المزيد في مكتبة المناهج التعليمية والكتب الدراسية , اقرأ المزيد في مكتبة القصص والروايات والمجلّات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الهندسة والتكنولوجيا , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب والموسوعات العامة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب تعلم اللغات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب التنمية البشرية , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب التعليمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب التاريخ , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأطفال قصص ومجلات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الطب , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب العلمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب علوم سياسية وقانونية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأدب , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الروايات الأجنبية والعالمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب اللياقة البدنية والصحة العامة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأسرة والتربية الطبخ والديكور , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب الغير مصنّفة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب المعاجم واللغات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب علوم عسكرية و قانون دولي
جميع مكتبات الكتب ..