كتاب سيرة عمر بن عبد العزيز على ما رواه الإمام مالك بن أنس وأصحابهكتب إسلامية

كتاب سيرة عمر بن عبد العزيز على ما رواه الإمام مالك بن أنس وأصحابه

أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي (61هـ681م - 101هـ720م)، هو ثامن الخلفاء الأمويين، عمر الثاني. ولد سنة 61 هـ في المدينة المنورة، ونشأ فيها عند أخواله من آل عمر بن الخطاب، فتأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة، وكان شديد الإقبال على طلب العلم. وفي سنة 87هـ، ولّاه الخليفة الوليد بن عبد الملك على إمارة المدينة المنورة، ثم ضم إليه ولاية الطائف سنة 91هـ، فصار واليًا على الحجاز كلها، ثم عُزل عنها وانتقل إلى دمشق. فلما تولى سليمان بن عبد الملك الخلافة قرّبه وجعله وزيرًا ومستشارًا له، ثم جعله ولي عهده، فلما مات سليمان سنة 99هـ تولى عمر الخلافة. تميزت خلافة عمر بن عبد العزيز بعدد من المميزات، منها: العدلُ والمساواة، وردُّ المظالم التي كان أسلافه من بني أمية قد ارتكبوها، وعزلُ جميع الولاة الظالمين ومعاقبتُهم، كما أعاد العمل بالشورى، ولذلك عدّه كثير من العلماء خامس الخلفاء الراشدين، كما اهتم بالعلوم الشرعية، وأمر بتدوين الحديث النبوي الشريف. استمرت خلافة عمر سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، حتى قُتل مسمومًا سنة 101هـ، فتولى يزيد بن عبد الملك الخلافة من بعده. مولده ولد عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة سنة 61هـ، وقد اختلف المؤرخون في سنة ولادته، والراجح أنه ولد عام 61هـ، وهو قول أكثر المؤرخين، ولأنه يؤيد ما يُذكر من أنه توفي وعمره أربعون سنة، حيث توفي عام 101هـ. وتذكر بعض المصادر أنه ولد بمصر، وهذا القول ضعيف لأن أباه عبد العزيز بن مروان إنما تولى مصر سنة 65هـ بعد استيلاء مروان بن الحكم عليها من يد عامل عبد الله بن الزبير، فولّى عليها ابنه عبد العزيز، ولم يُعرف لعبد العزيز بن مروان إقامة بمصر قبل ذلك، وإنما كانت إقامته وبني مروان في المدينة، وذكر الذهبي أنه ولد بالمدينة زمن يزيد. نشأته ولد عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة ونشأ بها، ثم صار أميراً عليها سنة 87هـ نشأ عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة، فلما شب وعقل وهو غلام صغير كان يأتي عبد الله بن عمر بن الخطاب لمكان أمه منه، ثم يرجع إلى أمه فيقول: «يا أمه، أنا أحب أن أكون مثل خالي»، يريد عبد الله بن عمر، فتؤفف به ثم تقول له: «اغرب، أنت تكون مثل خالك»، وتكرر عليه ذلك غير مرة. فلما كبر سار أبوه عبد العزيز بن مروان إلى مصر أميراً عليها، ثم كتب إلى زوجته أم عاصم أن تقدم عليه وتقدم بولدها، فأتت عمها عبد الله بن عمر فأعلمته بكتاب زوجها عبد العزيز إليها، فقال لها: «يا ابنة أخي، هو زوجك فالحقي به»، فلما أرادت الخروج قال لها: «خلفي هذا الغلام عندنا (يريد عمر) فإنه أشبهكم بنا أهل البيت»، فخلفته عنده ولم تخالفه، فلما قدمت على عبد العزيز اعترض ولده فإذا هو لا يرى عمر، فقال لها: «وأين عمر؟»، فأخبرته خبر عبد الله وما سألها من تخليفه عنده لشبهه بهم، فسرّ بذلك عبد العزيز، وكتب إلى أخيه عبد الملك يخبره بذلك، فكتب عبد الملك أن يجري عليه ألف دينار في كل شهر، ثم قدم عمر على أبيه مسلِّماً. وهكذا تربى عمر بين أخواله بالمدينة المنورة من أسرة عمر بن الخطاب، ولا شك أنه تأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة. وكان عمر بن عبد العزيز منذ صغره شديد الإقبال على طلب العلم، وكان يحب المطالعة والمذاكرة بين العلماء، كما كان يحرص على ملازمة مجالس العلم في المدينة، وكانت يومئذ منارة العلم والصلاح، زاخرةً بالعلماء والفقهاء والصالحين، وتاقت نفسه للعلم وهو صغير، وكان أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز حرصه على العلم ورغبته في الأدب. وجمع عمر بن عبد العزيز القرآن وهو صغير، وساعده على ذلك صفاء نفسه وقدرته الكبيرة على الحفظ وتفرغه الكامل لطلب العلم والحفظ، وقد تأثر كثيراً بالقرآن الكريم، وكان يبكي لذكر الموت مع حداثة سنه، فبلغ ذلك أمه فأرسلت إليه وقالت: «ما يبكيك؟»، قال: «ذكرت الموت»، فبكت أمه حين بلغها ذلك. طلبه للعلم عاش عمر بن عبد العزيز في زمن ساد فيه مجتمعُ التقوى والإقبال على طلب العلم، فقد كان عدد من الصحابة لا يزالون بالمدينة، فقد حدث عمر بن عبد العزيز عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والسائب بن يزيد، وسهل بن سعد، واستوهب منه قدحاً شرب منه النبي محمد، كما أمّ بأنس بن مالك فقال: «ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى». تربى عمر بن عبد العزيز على أيدي كبار فقهاء المدينة وعلمائها، فقد اختار عبد العزيز (والد عمر) صالح بن كيسان ليكون مربياً لعمر، فتولى صالح تأديبه، وكان يُلزم عمر الصلوات المفروضة في المسجد، فحدث يوماً أن تأخر عمر عن الصلاة مع الجماعة، فقال له صالح بن كيسان: «ما يشغلك؟»، قال: «كانت مرجّلتي (مسرحة شعري) تسكن شعري»، فقال: «بلغ منك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟»، فكتب إلى عبد العزيز يذكر ذلك، فبعث أبوه رسولاً فلم يكلمه حتى حلق رأسه. ولمّا حج أبوه ومرّ بالمدينة سأل صالح بن كيسان عن ابنه فقال: «ما خبرت أحداً الله أعظم في صدره من هذا الغلام». وكان يحرص على التشبه بصلاة النبي محمد أشد الحرص، فكان يُتمُّ الركوع والسجود ويخفِّف القيام والقعود، وفي رواية صحيحة: أنّه كان يسبِّح في الركوع والسجود عشراً عشراً. ومن شيوخ عمر بن عبد العزيز الذين تأثر بهم: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، فقد كان عمر يجله كثيراً، ونهل من علمه وتأدب بأدبه وتردد عليه حتى وهو أمير المدينة، ولقد عبّر عمر عن إعجابه بشيخه وكثرة التردد إلى مجلسه فقال: «لَمجلسٌ من الأعمى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحب إليّ من ألف دينار». وكان يقول في أيام خلافته لمعرفته بما عند شيخه من علم غزير: «لو كان عبيد الله حياً ما صدرت إلا عن رأيه، ولوددت أن لي بيوم واحد من عبيد الله كذا وكذا». وكان عبيد الله مفتي المدينة في زمانه، وأحد الفقهاء السبعة، قال عنه الزهري: «كان عبيد الله بن عبد الله بحراً من بحور العلم». ومن شيوخه أيضاً سعيد بن المسيب، وكان سعيد لا يأتي أحداً من الأمراء غير عمر. ومنهم سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي قال فيه سعيد بن المسيب: «كان عبد الله بن عمر أشبه ولد عمر به، وكان سالم أشبه ولد عبد الله به». وذات يوم دخل سالم بن عبد الله على الخليفة سليمان بن عبد الملك، وعلى سالم ثياب غليظة رثَّة، فلم يزل سليمان يرحب به، ويرفعه حتى أقعده معه على سريره، وعمر بن عبد العزيز في المجلس، فقال له رجل من أُخريات الناس: «ما استطاع خالك أن يلبس ثياباً فاخرة أحسن من هذه يدخل فيها على أمير المؤمنين؟»، وعلى المتكلم ثياب سريَّة لها قيمة، فقال له عمر: «ما رأيت هذه الثياب التي على خالي وضعته في مكانك، ولا رأيت ثيابك هذه رفعتك إلى مكان خالي ذاك». وتربى عمر وتعلم على أيدي كثير من العلماء والفقهاء، وقد بلغ عدد شيوخ عمر بن عبد العزيز ثلاثة وثلاثين؛ ثمانية منهم من الصحابة وخمسة وعشرون من التابعين. في عهد الوليد بن عبد الملك كان لعمر بن عبد العزيز أثر كبير في نصح الخلفاء وتوجيه سياستهم بالرأي والمشورة، إذ يحتل عمر مكانة متميزة في البيت الأموي، فقد كان عمه عبد الملك يجله ويعجب بنباهته أثناء شبابه، مما جعله يقدمه على كثير من أبنائه ويزوجه من ابنته، ولكن لم يكن له مشاركات في عهد عبد الملك بسبب صغر سنه واشتغاله بطلب العلم في المدينة، ومع ذلك فقد أورد ابن الجوزي أنه كتب إلى عبد الملك كتاباً يذكّره فيه بالمسؤولية الملقاة على عاتقه، وقد جاء فيها: «أما بعد، فإنك راعٍ، وكلٌّ مسؤولٌ عن رعيته، حدثنا أنس بن مالك أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل راعٍ مسؤول عن رعيته، Ra bracket.png اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا Aya-87.png La bracket.png.» ويقال بأن عبد الملك قد ولّى عمر بن عبد العزيز على "خناصره" ليتدرب على الأعمال القيادية في وقت مبكر، ويقال إن سليمان بن عبد الملك هو الذي ولاه عليها. وقد تأثر عمر بن عبد العزيز لموت عمه عبد الملك وحزن عليه حزناً عظيماً، وقد خاطب عمر ابن عمه مسلمة بن عبد الملك فقال له: «يا مسلمة، إني حضرت أباك لما دفن، فحملتني عيني عند قبره فرأيته قد أفضى إلى أمر من أمر الله راعني وهالني، فعاهدت الله ألا أعمل بمثل عمله إن وليت، وقد اجتهدت في ذلك». إمارته على المدينة المنورة في ربيع الأول من عام 87هـ، ولّى الخليفة الوليد بن عبد الملك عمرَ إمارة المدينة المنورة، ثم ضم إليه ولاية الطائف سنة 91هـ، وبذلك صار والياً على الحجاز كلها. واشترط عمر لتوليه الإمارة ثلاثة شروط: الشرط الأول: أن يعمل في الناس بالحق والعدل ولا يظلم أحداً، ولا يجور على أحد في أخذ ما على الناس من حقوق لبيت المال، ويترتب على ذلك أن يقل ما يرفع للخليفة من الأموال من المدينة. الشرط الثاني: أن يسمح له بالحج في أول سنة؛ لأن عمر كان في ذلك الوقت لم يحج. الشرط الثالث: أن يسمح له بالعطاء أن يُخرجه للناس في المدينة. فوافق الوليد على هذه الشروط، وباشر عمر بن عبد العزيز عمله بالمدينة، وفرح الناس به فرحاً شديداً. وقام عمر بتكوين مجلس للشورى بالمدينة سمي بـ"مجلس فقهاء المدينة العشرة"، فعندما جاء الناس للسلام على أمير المدينة الجديد وصلّى بهم، دعا عشرة من فقهاء المدينة وهم: عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأخوه عبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت، فدخلوا عليه فجلسوا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعواناً على الحق، إني لا أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى، أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرّج الله على من بلغه ذلك إلا أبلغني». وفي إمارته على المدينة المنورة وسّع المسجد النبوي بأمر من الوليد بن عبد الملك، حتى جعله مئتي ذراع في مئتي ذراع، وزخرفه بأمر الوليد أيضاً، مع أنه كان يكره زخرفة المساجد. وفي سنة 91هـ، أي في أثناء إمارته على المدينة المنورة، حج الخليفة الوليد بن عبد الملك، فاستقبله عمر بن عبد العزيز أحسن استقبال، وشاهد الوليد بأم عينيه الإصلاحات العظيمة التي حققها عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة. عزله عن إمارة المدينة ذكر ابن الجوزي أن عمر بن عبد العزيز قد استعفى من المدينة، ففي سنة 92هـ عقد الخليفة الوليد لواء الحج للحجاج بن يوسف الثقفي ليكون أميراً على الحج، ولما علم عمر بن عبد العزيز بذلك، كتب إلى الخليفة يستعفيه أن يمرَّ عليه الحجاج بالمدينة المنورة، لأن عمر بن عبد العزيز كان يكره الحجّاج ولا يطيق أن يراه لما هو عليه من الظلم، فامتثل الوليد لرغبة عمر، وكتب إلى الحجّاج: «إن عمر بن عبد العزيز كتب إليَّ يستعفيني من ممرك عليه، فلا عليك أن لا تمر بمن كرهك، فتنحّ عن المدينة». وقد كتب عمر بن عبد العزيز وهو والٍ على المدينة إلى الوليد بن عبد الملك يخبره عما وصل إليه حال العراق من الظلم والضيم والضيق بسبب ظلم الحجّاج وغشمه، مما جعل الحجّاج يحاول الانتقام من عمر، لاسيما وقد أصبح الحجاز ملاذاً للفارين من عسف الحجاج وظلمه، حيث كتب الحجّاج إلى الوليد: «إن من قبلي من مُرّاق أهل العراق وأهل الثقاف قد جلوا عن العراق، ولجأوا إلى المدينة ومكة، وإن ذلك وهن»، فكتب إليه يشير عليه بعثمان بن حبان، وخالد بن عبد الله القسري، وعزل عمر عبد العزيز. وقد كان ميول الوليد لسياسة الحجّاج واضحاً، وكان يظن بأن سياسة الشدة والعسف هي السبيل الوحيد لتوطيد أركان الدولة، وهذا ما حال بينه وبين الأخذ بآراء عمر بن عبد العزيز ونصائحه، وقد أثبتت الأحداث فيما بعد أن ما كان يراه عمر أفضل مما كان يسير عليه الوليد، وذلك بعد تولي عمر الخلافة وتطبيقه لما كان يشير به.
عبد الله بن عبد الحكيم أبو محمد - ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ سيرة عمر بن عبد العزيز على ما رواه الإمام مالك بن أنس وأصحابه ❝ الناشرين : ❞ عالم الكتب ❝ ❱
من التراجم والأعلام - مكتبة كتب إسلامية.

وصف الكتاب : أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي (61هـ681م - 101هـ720م)، هو ثامن الخلفاء الأمويين، عمر الثاني. ولد سنة 61 هـ في المدينة المنورة، ونشأ فيها عند أخواله من آل عمر بن الخطاب، فتأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة، وكان شديد الإقبال على طلب العلم. وفي سنة 87هـ، ولّاه الخليفة الوليد بن عبد الملك على إمارة المدينة المنورة، ثم ضم إليه ولاية الطائف سنة 91هـ، فصار واليًا على الحجاز كلها، ثم عُزل عنها وانتقل إلى دمشق. فلما تولى سليمان بن عبد الملك الخلافة قرّبه وجعله وزيرًا ومستشارًا له، ثم جعله ولي عهده، فلما مات سليمان سنة 99هـ تولى عمر الخلافة.

تميزت خلافة عمر بن عبد العزيز بعدد من المميزات، منها: العدلُ والمساواة، وردُّ المظالم التي كان أسلافه من بني أمية قد ارتكبوها، وعزلُ جميع الولاة الظالمين ومعاقبتُهم، كما أعاد العمل بالشورى، ولذلك عدّه كثير من العلماء خامس الخلفاء الراشدين، كما اهتم بالعلوم الشرعية، وأمر بتدوين الحديث النبوي الشريف. استمرت خلافة عمر سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، حتى قُتل مسمومًا سنة 101هـ، فتولى يزيد بن عبد الملك الخلافة من بعده.

مولده
ولد عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة سنة 61هـ، وقد اختلف المؤرخون في سنة ولادته، والراجح أنه ولد عام 61هـ، وهو قول أكثر المؤرخين، ولأنه يؤيد ما يُذكر من أنه توفي وعمره أربعون سنة، حيث توفي عام 101هـ.

وتذكر بعض المصادر أنه ولد بمصر، وهذا القول ضعيف لأن أباه عبد العزيز بن مروان إنما تولى مصر سنة 65هـ بعد استيلاء مروان بن الحكم عليها من يد عامل عبد الله بن الزبير، فولّى عليها ابنه عبد العزيز، ولم يُعرف لعبد العزيز بن مروان إقامة بمصر قبل ذلك، وإنما كانت إقامته وبني مروان في المدينة، وذكر الذهبي أنه ولد بالمدينة زمن يزيد.

نشأته

ولد عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة ونشأ بها، ثم صار أميراً عليها سنة 87هـ
نشأ عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة، فلما شب وعقل وهو غلام صغير كان يأتي عبد الله بن عمر بن الخطاب لمكان أمه منه، ثم يرجع إلى أمه فيقول: «يا أمه، أنا أحب أن أكون مثل خالي»، يريد عبد الله بن عمر، فتؤفف به ثم تقول له: «اغرب، أنت تكون مثل خالك»، وتكرر عليه ذلك غير مرة. فلما كبر سار أبوه عبد العزيز بن مروان إلى مصر أميراً عليها، ثم كتب إلى زوجته أم عاصم أن تقدم عليه وتقدم بولدها، فأتت عمها عبد الله بن عمر فأعلمته بكتاب زوجها عبد العزيز إليها، فقال لها: «يا ابنة أخي، هو زوجك فالحقي به»، فلما أرادت الخروج قال لها: «خلفي هذا الغلام عندنا (يريد عمر) فإنه أشبهكم بنا أهل البيت»، فخلفته عنده ولم تخالفه، فلما قدمت على عبد العزيز اعترض ولده فإذا هو لا يرى عمر، فقال لها: «وأين عمر؟»، فأخبرته خبر عبد الله وما سألها من تخليفه عنده لشبهه بهم، فسرّ بذلك عبد العزيز، وكتب إلى أخيه عبد الملك يخبره بذلك، فكتب عبد الملك أن يجري عليه ألف دينار في كل شهر، ثم قدم عمر على أبيه مسلِّماً. وهكذا تربى عمر بين أخواله بالمدينة المنورة من أسرة عمر بن الخطاب، ولا شك أنه تأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة.

وكان عمر بن عبد العزيز منذ صغره شديد الإقبال على طلب العلم، وكان يحب المطالعة والمذاكرة بين العلماء، كما كان يحرص على ملازمة مجالس العلم في المدينة، وكانت يومئذ منارة العلم والصلاح، زاخرةً بالعلماء والفقهاء والصالحين، وتاقت نفسه للعلم وهو صغير، وكان أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز حرصه على العلم ورغبته في الأدب.

وجمع عمر بن عبد العزيز القرآن وهو صغير، وساعده على ذلك صفاء نفسه وقدرته الكبيرة على الحفظ وتفرغه الكامل لطلب العلم والحفظ، وقد تأثر كثيراً بالقرآن الكريم، وكان يبكي لذكر الموت مع حداثة سنه، فبلغ ذلك أمه فأرسلت إليه وقالت: «ما يبكيك؟»، قال: «ذكرت الموت»، فبكت أمه حين بلغها ذلك.

طلبه للعلم
عاش عمر بن عبد العزيز في زمن ساد فيه مجتمعُ التقوى والإقبال على طلب العلم، فقد كان عدد من الصحابة لا يزالون بالمدينة، فقد حدث عمر بن عبد العزيز عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والسائب بن يزيد، وسهل بن سعد، واستوهب منه قدحاً شرب منه النبي محمد، كما أمّ بأنس بن مالك فقال: «ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى».

تربى عمر بن عبد العزيز على أيدي كبار فقهاء المدينة وعلمائها، فقد اختار عبد العزيز (والد عمر) صالح بن كيسان ليكون مربياً لعمر، فتولى صالح تأديبه، وكان يُلزم عمر الصلوات المفروضة في المسجد، فحدث يوماً أن تأخر عمر عن الصلاة مع الجماعة، فقال له صالح بن كيسان: «ما يشغلك؟»، قال: «كانت مرجّلتي (مسرحة شعري) تسكن شعري»، فقال: «بلغ منك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟»، فكتب إلى عبد العزيز يذكر ذلك، فبعث أبوه رسولاً فلم يكلمه حتى حلق رأسه. ولمّا حج أبوه ومرّ بالمدينة سأل صالح بن كيسان عن ابنه فقال: «ما خبرت أحداً الله أعظم في صدره من هذا الغلام». وكان يحرص على التشبه بصلاة النبي محمد أشد الحرص، فكان يُتمُّ الركوع والسجود ويخفِّف القيام والقعود، وفي رواية صحيحة: أنّه كان يسبِّح في الركوع والسجود عشراً عشراً.

ومن شيوخ عمر بن عبد العزيز الذين تأثر بهم: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، فقد كان عمر يجله كثيراً، ونهل من علمه وتأدب بأدبه وتردد عليه حتى وهو أمير المدينة، ولقد عبّر عمر عن إعجابه بشيخه وكثرة التردد إلى مجلسه فقال: «لَمجلسٌ من الأعمى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحب إليّ من ألف دينار». وكان يقول في أيام خلافته لمعرفته بما عند شيخه من علم غزير: «لو كان عبيد الله حياً ما صدرت إلا عن رأيه، ولوددت أن لي بيوم واحد من عبيد الله كذا وكذا». وكان عبيد الله مفتي المدينة في زمانه، وأحد الفقهاء السبعة، قال عنه الزهري: «كان عبيد الله بن عبد الله بحراً من بحور العلم».

ومن شيوخه أيضاً سعيد بن المسيب، وكان سعيد لا يأتي أحداً من الأمراء غير عمر. ومنهم سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي قال فيه سعيد بن المسيب: «كان عبد الله بن عمر أشبه ولد عمر به، وكان سالم أشبه ولد عبد الله به». وذات يوم دخل سالم بن عبد الله على الخليفة سليمان بن عبد الملك، وعلى سالم ثياب غليظة رثَّة، فلم يزل سليمان يرحب به، ويرفعه حتى أقعده معه على سريره، وعمر بن عبد العزيز في المجلس، فقال له رجل من أُخريات الناس: «ما استطاع خالك أن يلبس ثياباً فاخرة أحسن من هذه يدخل فيها على أمير المؤمنين؟»، وعلى المتكلم ثياب سريَّة لها قيمة، فقال له عمر: «ما رأيت هذه الثياب التي على خالي وضعته في مكانك، ولا رأيت ثيابك هذه رفعتك إلى مكان خالي ذاك».

وتربى عمر وتعلم على أيدي كثير من العلماء والفقهاء، وقد بلغ عدد شيوخ عمر بن عبد العزيز ثلاثة وثلاثين؛ ثمانية منهم من الصحابة وخمسة وعشرون من التابعين.

في عهد الوليد بن عبد الملك
كان لعمر بن عبد العزيز أثر كبير في نصح الخلفاء وتوجيه سياستهم بالرأي والمشورة، إذ يحتل عمر مكانة متميزة في البيت الأموي، فقد كان عمه عبد الملك يجله ويعجب بنباهته أثناء شبابه، مما جعله يقدمه على كثير من أبنائه ويزوجه من ابنته، ولكن لم يكن له مشاركات في عهد عبد الملك بسبب صغر سنه واشتغاله بطلب العلم في المدينة، ومع ذلك فقد أورد ابن الجوزي أنه كتب إلى عبد الملك كتاباً يذكّره فيه بالمسؤولية الملقاة على عاتقه، وقد جاء فيها:

«أما بعد، فإنك راعٍ، وكلٌّ مسؤولٌ عن رعيته، حدثنا أنس بن مالك أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل راعٍ مسؤول عن رعيته، Ra bracket.png اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا Aya-87.png La bracket.png.»
ويقال بأن عبد الملك قد ولّى عمر بن عبد العزيز على "خناصره" ليتدرب على الأعمال القيادية في وقت مبكر، ويقال إن سليمان بن عبد الملك هو الذي ولاه عليها. وقد تأثر عمر بن عبد العزيز لموت عمه عبد الملك وحزن عليه حزناً عظيماً، وقد خاطب عمر ابن عمه مسلمة بن عبد الملك فقال له: «يا مسلمة، إني حضرت أباك لما دفن، فحملتني عيني عند قبره فرأيته قد أفضى إلى أمر من أمر الله راعني وهالني، فعاهدت الله ألا أعمل بمثل عمله إن وليت، وقد اجتهدت في ذلك».

إمارته على المدينة المنورة
في ربيع الأول من عام 87هـ، ولّى الخليفة الوليد بن عبد الملك عمرَ إمارة المدينة المنورة، ثم ضم إليه ولاية الطائف سنة 91هـ، وبذلك صار والياً على الحجاز كلها. واشترط عمر لتوليه الإمارة ثلاثة شروط:

الشرط الأول: أن يعمل في الناس بالحق والعدل ولا يظلم أحداً، ولا يجور على أحد في أخذ ما على الناس من حقوق لبيت المال، ويترتب على ذلك أن يقل ما يرفع للخليفة من الأموال من المدينة.
الشرط الثاني: أن يسمح له بالحج في أول سنة؛ لأن عمر كان في ذلك الوقت لم يحج.
الشرط الثالث: أن يسمح له بالعطاء أن يُخرجه للناس في المدينة.
فوافق الوليد على هذه الشروط، وباشر عمر بن عبد العزيز عمله بالمدينة، وفرح الناس به فرحاً شديداً.

وقام عمر بتكوين مجلس للشورى بالمدينة سمي بـ"مجلس فقهاء المدينة العشرة"، فعندما جاء الناس للسلام على أمير المدينة الجديد وصلّى بهم، دعا عشرة من فقهاء المدينة وهم: عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأخوه عبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت، فدخلوا عليه فجلسوا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعواناً على الحق، إني لا أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى، أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرّج الله على من بلغه ذلك إلا أبلغني».

وفي إمارته على المدينة المنورة وسّع المسجد النبوي بأمر من الوليد بن عبد الملك، حتى جعله مئتي ذراع في مئتي ذراع، وزخرفه بأمر الوليد أيضاً، مع أنه كان يكره زخرفة المساجد.

وفي سنة 91هـ، أي في أثناء إمارته على المدينة المنورة، حج الخليفة الوليد بن عبد الملك، فاستقبله عمر بن عبد العزيز أحسن استقبال، وشاهد الوليد بأم عينيه الإصلاحات العظيمة التي حققها عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة.

عزله عن إمارة المدينة
ذكر ابن الجوزي أن عمر بن عبد العزيز قد استعفى من المدينة، ففي سنة 92هـ عقد الخليفة الوليد لواء الحج للحجاج بن يوسف الثقفي ليكون أميراً على الحج، ولما علم عمر بن عبد العزيز بذلك، كتب إلى الخليفة يستعفيه أن يمرَّ عليه الحجاج بالمدينة المنورة، لأن عمر بن عبد العزيز كان يكره الحجّاج ولا يطيق أن يراه لما هو عليه من الظلم، فامتثل الوليد لرغبة عمر، وكتب إلى الحجّاج: «إن عمر بن عبد العزيز كتب إليَّ يستعفيني من ممرك عليه، فلا عليك أن لا تمر بمن كرهك، فتنحّ عن المدينة».

وقد كتب عمر بن عبد العزيز وهو والٍ على المدينة إلى الوليد بن عبد الملك يخبره عما وصل إليه حال العراق من الظلم والضيم والضيق بسبب ظلم الحجّاج وغشمه، مما جعل الحجّاج يحاول الانتقام من عمر، لاسيما وقد أصبح الحجاز ملاذاً للفارين من عسف الحجاج وظلمه، حيث كتب الحجّاج إلى الوليد: «إن من قبلي من مُرّاق أهل العراق وأهل الثقاف قد جلوا عن العراق، ولجأوا إلى المدينة ومكة، وإن ذلك وهن»، فكتب إليه يشير عليه بعثمان بن حبان، وخالد بن عبد الله القسري، وعزل عمر عبد العزيز.

وقد كان ميول الوليد لسياسة الحجّاج واضحاً، وكان يظن بأن سياسة الشدة والعسف هي السبيل الوحيد لتوطيد أركان الدولة، وهذا ما حال بينه وبين الأخذ بآراء عمر بن عبد العزيز ونصائحه، وقد أثبتت الأحداث فيما بعد أن ما كان يراه عمر أفضل مما كان يسير عليه الوليد، وذلك بعد تولي عمر الخلافة وتطبيقه لما كان يشير به.


للكاتب/المؤلف : عبد الله بن عبد الحكيم أبو محمد .
دار النشر : عالم الكتب .
سنة النشر : 1984م / 1404هـ .
عدد مرات التحميل : 30255 مرّة / مرات.
تم اضافته في : الأحد , 20 مارس 2016م.
حجم الكتاب عند التحميل : 2.8 ميجا بايت .

ولتسجيل ملاحظاتك ورأيك حول الكتاب يمكنك المشاركه في التعليقات من هنا:

سيرة عمر بن عبد العزيز على ما رواه الإمام مالك بن أنس وأصحابه

 التراجم والأعلام 

سيرة عمر بن عبد العزيز على ما رواه الإمام مالك بن أنس وأصحابه من التراجم والأعلام 


أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي (61هـ681م - 101هـ720م)، هو ثامن الخلفاء الأمويين، عمر الثاني. ولد سنة 61 هـ في المدينة المنورة، ونشأ فيها عند أخواله من آل عمر بن الخطاب، فتأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة، وكان شديد الإقبال على طلب العلم. وفي سنة 87هـ، ولّاه الخليفة الوليد بن عبد الملك على إمارة المدينة المنورة، ثم ضم إليه ولاية الطائف سنة 91هـ، فصار واليًا على الحجاز كلها، ثم عُزل عنها وانتقل إلى دمشق. فلما تولى سليمان بن عبد الملك الخلافة قرّبه وجعله وزيرًا ومستشارًا له، ثم جعله ولي عهده، فلما مات سليمان سنة 99هـ تولى عمر الخلافة.

تميزت خلافة عمر بن عبد العزيز بعدد من المميزات، منها: العدلُ والمساواة، وردُّ المظالم التي كان أسلافه من بني أمية قد ارتكبوها، وعزلُ جميع الولاة الظالمين ومعاقبتُهم، كما أعاد العمل بالشورى، ولذلك عدّه كثير من العلماء خامس الخلفاء الراشدين، كما اهتم بالعلوم الشرعية، وأمر بتدوين الحديث النبوي الشريف. استمرت خلافة عمر سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، حتى قُتل مسمومًا سنة 101هـ، فتولى يزيد بن عبد الملك الخلافة من بعده.

مولده
ولد عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة سنة 61هـ، وقد اختلف المؤرخون في سنة ولادته، والراجح أنه ولد عام 61هـ، وهو قول أكثر المؤرخين، ولأنه يؤيد ما يُذكر من أنه توفي وعمره أربعون سنة، حيث توفي عام 101هـ.

وتذكر بعض المصادر أنه ولد بمصر، وهذا القول ضعيف لأن أباه عبد العزيز بن مروان إنما تولى مصر سنة 65هـ بعد استيلاء مروان بن الحكم عليها من يد عامل عبد الله بن الزبير، فولّى عليها ابنه عبد العزيز، ولم يُعرف لعبد العزيز بن مروان إقامة بمصر قبل ذلك، وإنما كانت إقامته وبني مروان في المدينة، وذكر الذهبي أنه ولد بالمدينة زمن يزيد.

نشأته

ولد عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة ونشأ بها، ثم صار أميراً عليها سنة 87هـ
نشأ عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة، فلما شب وعقل وهو غلام صغير كان يأتي عبد الله بن عمر بن الخطاب لمكان أمه منه، ثم يرجع إلى أمه فيقول: «يا أمه، أنا أحب أن أكون مثل خالي»، يريد عبد الله بن عمر، فتؤفف به ثم تقول له: «اغرب، أنت تكون مثل خالك»، وتكرر عليه ذلك غير مرة. فلما كبر سار أبوه عبد العزيز بن مروان إلى مصر أميراً عليها، ثم كتب إلى زوجته أم عاصم أن تقدم عليه وتقدم بولدها، فأتت عمها عبد الله بن عمر فأعلمته بكتاب زوجها عبد العزيز إليها، فقال لها: «يا ابنة أخي، هو زوجك فالحقي به»، فلما أرادت الخروج قال لها: «خلفي هذا الغلام عندنا (يريد عمر) فإنه أشبهكم بنا أهل البيت»، فخلفته عنده ولم تخالفه، فلما قدمت على عبد العزيز اعترض ولده فإذا هو لا يرى عمر، فقال لها: «وأين عمر؟»، فأخبرته خبر عبد الله وما سألها من تخليفه عنده لشبهه بهم، فسرّ بذلك عبد العزيز، وكتب إلى أخيه عبد الملك يخبره بذلك، فكتب عبد الملك أن يجري عليه ألف دينار في كل شهر، ثم قدم عمر على أبيه مسلِّماً. وهكذا تربى عمر بين أخواله بالمدينة المنورة من أسرة عمر بن الخطاب، ولا شك أنه تأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة.

وكان عمر بن عبد العزيز منذ صغره شديد الإقبال على طلب العلم، وكان يحب المطالعة والمذاكرة بين العلماء، كما كان يحرص على ملازمة مجالس العلم في المدينة، وكانت يومئذ منارة العلم والصلاح، زاخرةً بالعلماء والفقهاء والصالحين، وتاقت نفسه للعلم وهو صغير، وكان أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز حرصه على العلم ورغبته في الأدب.

وجمع عمر بن عبد العزيز القرآن وهو صغير، وساعده على ذلك صفاء نفسه وقدرته الكبيرة على الحفظ وتفرغه الكامل لطلب العلم والحفظ، وقد تأثر كثيراً بالقرآن الكريم، وكان يبكي لذكر الموت مع حداثة سنه، فبلغ ذلك أمه فأرسلت إليه وقالت: «ما يبكيك؟»، قال: «ذكرت الموت»، فبكت أمه حين بلغها ذلك.

طلبه للعلم
عاش عمر بن عبد العزيز في زمن ساد فيه مجتمعُ التقوى والإقبال على طلب العلم، فقد كان عدد من الصحابة لا يزالون بالمدينة، فقد حدث عمر بن عبد العزيز عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والسائب بن يزيد، وسهل بن سعد، واستوهب منه قدحاً شرب منه النبي محمد، كما أمّ بأنس بن مالك فقال: «ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى».

تربى عمر بن عبد العزيز على أيدي كبار فقهاء المدينة وعلمائها، فقد اختار عبد العزيز (والد عمر) صالح بن كيسان ليكون مربياً لعمر، فتولى صالح تأديبه، وكان يُلزم عمر الصلوات المفروضة في المسجد، فحدث يوماً أن تأخر عمر عن الصلاة مع الجماعة، فقال له صالح بن كيسان: «ما يشغلك؟»، قال: «كانت مرجّلتي (مسرحة شعري) تسكن شعري»، فقال: «بلغ منك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟»، فكتب إلى عبد العزيز يذكر ذلك، فبعث أبوه رسولاً فلم يكلمه حتى حلق رأسه. ولمّا حج أبوه ومرّ بالمدينة سأل صالح بن كيسان عن ابنه فقال: «ما خبرت أحداً الله أعظم في صدره من هذا الغلام». وكان يحرص على التشبه بصلاة النبي محمد أشد الحرص، فكان يُتمُّ الركوع والسجود ويخفِّف القيام والقعود، وفي رواية صحيحة: أنّه كان يسبِّح في الركوع والسجود عشراً عشراً.

ومن شيوخ عمر بن عبد العزيز الذين تأثر بهم: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، فقد كان عمر يجله كثيراً، ونهل من علمه وتأدب بأدبه وتردد عليه حتى وهو أمير المدينة، ولقد عبّر عمر عن إعجابه بشيخه وكثرة التردد إلى مجلسه فقال: «لَمجلسٌ من الأعمى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحب إليّ من ألف دينار». وكان يقول في أيام خلافته لمعرفته بما عند شيخه من علم غزير: «لو كان عبيد الله حياً ما صدرت إلا عن رأيه، ولوددت أن لي بيوم واحد من عبيد الله كذا وكذا». وكان عبيد الله مفتي المدينة في زمانه، وأحد الفقهاء السبعة، قال عنه الزهري: «كان عبيد الله بن عبد الله بحراً من بحور العلم».

ومن شيوخه أيضاً سعيد بن المسيب، وكان سعيد لا يأتي أحداً من الأمراء غير عمر. ومنهم سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي قال فيه سعيد بن المسيب: «كان عبد الله بن عمر أشبه ولد عمر به، وكان سالم أشبه ولد عبد الله به». وذات يوم دخل سالم بن عبد الله على الخليفة سليمان بن عبد الملك، وعلى سالم ثياب غليظة رثَّة، فلم يزل سليمان يرحب به، ويرفعه حتى أقعده معه على سريره، وعمر بن عبد العزيز في المجلس، فقال له رجل من أُخريات الناس: «ما استطاع خالك أن يلبس ثياباً فاخرة أحسن من هذه يدخل فيها على أمير المؤمنين؟»، وعلى المتكلم ثياب سريَّة لها قيمة، فقال له عمر: «ما رأيت هذه الثياب التي على خالي وضعته في مكانك، ولا رأيت ثيابك هذه رفعتك إلى مكان خالي ذاك».

وتربى عمر وتعلم على أيدي كثير من العلماء والفقهاء، وقد بلغ عدد شيوخ عمر بن عبد العزيز ثلاثة وثلاثين؛ ثمانية منهم من الصحابة وخمسة وعشرون من التابعين.

في عهد الوليد بن عبد الملك
كان لعمر بن عبد العزيز أثر كبير في نصح الخلفاء وتوجيه سياستهم بالرأي والمشورة، إذ يحتل عمر مكانة متميزة في البيت الأموي، فقد كان عمه عبد الملك يجله ويعجب بنباهته أثناء شبابه، مما جعله يقدمه على كثير من أبنائه ويزوجه من ابنته، ولكن لم يكن له مشاركات في عهد عبد الملك بسبب صغر سنه واشتغاله بطلب العلم في المدينة، ومع ذلك فقد أورد ابن الجوزي أنه كتب إلى عبد الملك كتاباً يذكّره فيه بالمسؤولية الملقاة على عاتقه، وقد جاء فيها:

«أما بعد، فإنك راعٍ، وكلٌّ مسؤولٌ عن رعيته، حدثنا أنس بن مالك أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل راعٍ مسؤول عن رعيته، Ra bracket.png اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا Aya-87.png La bracket.png.»
ويقال بأن عبد الملك قد ولّى عمر بن عبد العزيز على "خناصره" ليتدرب على الأعمال القيادية في وقت مبكر، ويقال إن سليمان بن عبد الملك هو الذي ولاه عليها. وقد تأثر عمر بن عبد العزيز لموت عمه عبد الملك وحزن عليه حزناً عظيماً، وقد خاطب عمر ابن عمه مسلمة بن عبد الملك فقال له: «يا مسلمة، إني حضرت أباك لما دفن، فحملتني عيني عند قبره فرأيته قد أفضى إلى أمر من أمر الله راعني وهالني، فعاهدت الله ألا أعمل بمثل عمله إن وليت، وقد اجتهدت في ذلك».

إمارته على المدينة المنورة
في ربيع الأول من عام 87هـ، ولّى الخليفة الوليد بن عبد الملك عمرَ إمارة المدينة المنورة، ثم ضم إليه ولاية الطائف سنة 91هـ، وبذلك صار والياً على الحجاز كلها. واشترط عمر لتوليه الإمارة ثلاثة شروط:

الشرط الأول: أن يعمل في الناس بالحق والعدل ولا يظلم أحداً، ولا يجور على أحد في أخذ ما على الناس من حقوق لبيت المال، ويترتب على ذلك أن يقل ما يرفع للخليفة من الأموال من المدينة.
الشرط الثاني: أن يسمح له بالحج في أول سنة؛ لأن عمر كان في ذلك الوقت لم يحج.
الشرط الثالث: أن يسمح له بالعطاء أن يُخرجه للناس في المدينة.
فوافق الوليد على هذه الشروط، وباشر عمر بن عبد العزيز عمله بالمدينة، وفرح الناس به فرحاً شديداً.

وقام عمر بتكوين مجلس للشورى بالمدينة سمي بـ"مجلس فقهاء المدينة العشرة"، فعندما جاء الناس للسلام على أمير المدينة الجديد وصلّى بهم، دعا عشرة من فقهاء المدينة وهم: عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأخوه عبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت، فدخلوا عليه فجلسوا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعواناً على الحق، إني لا أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى، أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرّج الله على من بلغه ذلك إلا أبلغني».

وفي إمارته على المدينة المنورة وسّع المسجد النبوي بأمر من الوليد بن عبد الملك، حتى جعله مئتي ذراع في مئتي ذراع، وزخرفه بأمر الوليد أيضاً، مع أنه كان يكره زخرفة المساجد.

وفي سنة 91هـ، أي في أثناء إمارته على المدينة المنورة، حج الخليفة الوليد بن عبد الملك، فاستقبله عمر بن عبد العزيز أحسن استقبال، وشاهد الوليد بأم عينيه الإصلاحات العظيمة التي حققها عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة.

عزله عن إمارة المدينة
ذكر ابن الجوزي أن عمر بن عبد العزيز قد استعفى من المدينة، ففي سنة 92هـ عقد الخليفة الوليد لواء الحج للحجاج بن يوسف الثقفي ليكون أميراً على الحج، ولما علم عمر بن عبد العزيز بذلك، كتب إلى الخليفة يستعفيه أن يمرَّ عليه الحجاج بالمدينة المنورة، لأن عمر بن عبد العزيز كان يكره الحجّاج ولا يطيق أن يراه لما هو عليه من الظلم، فامتثل الوليد لرغبة عمر، وكتب إلى الحجّاج: «إن عمر بن عبد العزيز كتب إليَّ يستعفيني من ممرك عليه، فلا عليك أن لا تمر بمن كرهك، فتنحّ عن المدينة».

وقد كتب عمر بن عبد العزيز وهو والٍ على المدينة إلى الوليد بن عبد الملك يخبره عما وصل إليه حال العراق من الظلم والضيم والضيق بسبب ظلم الحجّاج وغشمه، مما جعل الحجّاج يحاول الانتقام من عمر، لاسيما وقد أصبح الحجاز ملاذاً للفارين من عسف الحجاج وظلمه، حيث كتب الحجّاج إلى الوليد: «إن من قبلي من مُرّاق أهل العراق وأهل الثقاف قد جلوا عن العراق، ولجأوا إلى المدينة ومكة، وإن ذلك وهن»، فكتب إليه يشير عليه بعثمان بن حبان، وخالد بن عبد الله القسري، وعزل عمر عبد العزيز.

وقد كان ميول الوليد لسياسة الحجّاج واضحاً، وكان يظن بأن سياسة الشدة والعسف هي السبيل الوحيد لتوطيد أركان الدولة، وهذا ما حال بينه وبين الأخذ بآراء عمر بن عبد العزيز ونصائحه، وقد أثبتت الأحداث فيما بعد أن ما كان يراه عمر أفضل مما كان يسير عليه الوليد، وذلك بعد تولي عمر الخلافة وتطبيقه لما كان يشير به.

 سيرة عمر بن عبد العزيز على ما رواه الإمام مالك بن أنس وأصحابه
سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد pdf

سيرة عمر بن عبد العزيز كاملة

سيرة عمر بن عبد العزيز مختصرة

عمر بن عبد العزيز doc

سيرة عمر بن عبد العزيز طارق السويدان mp3



نوع الكتاب : pdf.
اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:


عبد الله بن عبد الحكيم أبو محمد
عبد الله بن عبد الحكيم أبو محمد
Abdullah bin Abdul Hakim Abu Muhammad Abdullah bin Abdul Hakim Abu Muhammad
❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ سيرة عمر بن عبد العزيز على ما رواه الإمام مالك بن أنس وأصحابه ❝ الناشرين : ❞ عالم الكتب ❝ ❱.



كتب اخرى في التراجم والأعلام

المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي PDF

قراءة و تحميل كتاب المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي PDF مجانا

أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث PDF

قراءة و تحميل كتاب أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث PDF مجانا

من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة PDF

قراءة و تحميل كتاب من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة PDF مجانا

أخبار الأذكياء PDF

قراءة و تحميل كتاب أخبار الأذكياء PDF مجانا

عيون الأخبار (طباعة. دار الكتب المصرية) PDF

قراءة و تحميل كتاب عيون الأخبار (طباعة. دار الكتب المصرية) PDF مجانا

طبقات الشعراء PDF

قراءة و تحميل كتاب طبقات الشعراء PDF مجانا

المهدي المنتظر في ضوء الأحاديث والآثار الصحيحة وأقوال العلماء وآراء الفرق المختلفة PDF

قراءة و تحميل كتاب المهدي المنتظر في ضوء الأحاديث والآثار الصحيحة وأقوال العلماء وآراء الفرق المختلفة PDF مجانا

ترجمة الشيخ محمد الكتاني المسماة أشرف الأماني PDF

قراءة و تحميل كتاب ترجمة الشيخ محمد الكتاني المسماة أشرف الأماني PDF مجانا

المزيد من كتب علوم القرآن في مكتبة كتب علوم القرآن , المزيد من كتب إسلامية متنوعة في مكتبة كتب إسلامية متنوعة , المزيد من إسلامية متنوعة في مكتبة إسلامية متنوعة , المزيد من كتب الفقه العام في مكتبة كتب الفقه العام , المزيد من كتب التوحيد والعقيدة في مكتبة كتب التوحيد والعقيدة , المزيد من مؤلفات حول الحديث النبوي الشريف في مكتبة مؤلفات حول الحديث النبوي الشريف , المزيد من كتب أصول الفقه وقواعده في مكتبة كتب أصول الفقه وقواعده , المزيد من التراجم والأعلام في مكتبة التراجم والأعلام , المزيد من السنة النبوية الشريفة في مكتبة السنة النبوية الشريفة
عرض كل كتب إسلامية ..
اقرأ المزيد في مكتبة كتب إسلامية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب تقنية المعلومات , اقرأ المزيد في مكتبة المناهج التعليمية والكتب الدراسية , اقرأ المزيد في مكتبة القصص والروايات والمجلّات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الهندسة والتكنولوجيا , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب والموسوعات العامة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب تعلم اللغات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب التنمية البشرية , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب التعليمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب التاريخ , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأطفال قصص ومجلات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الطب , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب العلمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب علوم سياسية وقانونية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأدب , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الروايات الأجنبية والعالمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب اللياقة البدنية والصحة العامة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأسرة والتربية الطبخ والديكور , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب الغير مصنّفة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب المعاجم واللغات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب علوم عسكرية و قانون دولي
جميع مكتبات الكتب ..