كتاب بعض فوائد صلح الحديبيةكتب إسلامية

كتاب بعض فوائد صلح الحديبية

مثّل صلح الحديبية حدثاً مهماً في حياة المسلمين، ومنعطفاً بارزاً في مسيرتهم الدعوية والجهادية. وقد حمل هذا الصلح -والأحداث التي أحاطت به- الكثيرَ من الأحكام المتعلقة بالجهاد في سبيل الله، والاتفاقيات والمعاهدات التي يمكن للمسلمين أن يعقدوها مع الأعداء إذا تحققت المصلحة، وأعطاهم دروساً في فنون التفاوض، وفي فقه الموازنات. وقد كان من بين بنود هذا الصلح أمور عدّها بعض المسلمين تنازلات غير مقبولة، لكنّ الرسول صلى الله عليه وسلم بحكمته وحنكته رأى فيها مصلحة وعزًا ونصرًا للمسلمين في القريب العاجل. رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأنهم يطوفون بالبيت، فأخبر أصحابه بذلك، ففرحوا فرحًا شديدًا، فقد اشتد بهم الحنين إلى مكة، وإلى أداء العمرة التي حُرموا منها سنوات وسنوات. وقد طمعوا في تحقق ذلك قريبًا، فرؤيا الأنبياء حق. خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة سنة ستٍ من الهجرة، في ألف وأربعمئة من أصحابه من المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من العرب، وكانت بصحبته زوجته أم سلمة رضي الله عنها، وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة من ذي الحليفة، ليعلم الناس أنه إنما خرج زائرًا لهذا البيت ومعظمًا له، وأنه لا يريد حربًا. وحين وصل إلى عسفان -مكان بين مكة والمدينة- أخبره بشر بن سفيان الكعبي أن قريشًا قد استعدّت لصدّه عن البيت، ومنْعِه من دخول مكة، فحاول النبي صلى الله عليه وسلم تجنّبهم، وسلك طريقًا آخر وعرًا بين الشعاب، فلما وصل إلى الحديبية بركت ناقته، فأقام في ذلك المكان، وأعلن النبي صلى الله عليه وسلم منهجه في التعامل مع قريش: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا). أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قريش خراش بن أمية الخزاعي، فلما دخل مكة عقرت به قريش، وأرادوا قتله فمنعهم الأحابيش، فعاد خراش بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما صنعت قريش. ثم أرسلَ عثمانَ رضي الله عنه، وقال له: (أخْبرهُم أَنّا لم نأت لقِتَال أحد، وَإِنَّمَا جِئْنَا زوّارا لهَذَا الْبَيْت معظمين لِحُرْمَتِهِ، مَعنا الْهَدْي نَنْحَره ونَنْصَرف). فقدم عثمان مكة، وأخبر قريشًا برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا، وعرضوا عليه أن يطوف بالبيت فأبى، ولقي –كما أمره رسول الله صل الله عليه وسلم- المستضعفين من المسلمين بمكة وبشّرهم بقرب الفرج والمخرج. تأخر عثمان رضي الله عنه في الرجوع إلى المسلمين، وشاع أنه قد قُتل، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، وكان جالسًا تحت الشجرة، فبايعه الصحابة على أن لا يفرّوا، وهذه هي بيعة الرضوان التي نزل فيها قول الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً}[الفتح:18]. بدأت الرسل بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فجاء بُديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، فحمّله رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة لقريش مفادها: (إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الحَرْبُ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ: فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ). ثم جاء رجل من بني كنانة يقال له مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هَذَا مِكْرَزٌ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ)، فكلّمه ثم عاد إلى قريش، فأرسلوا إليه الحِلْسَ بنَ عَلقَمَةَ الكِنَانِيَّ -وهو يومئذ سيد الأَحَابِيش- فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَتَأَلّهونَ –أي يعظّمون الهَدْيَ- فَابْعَثُوا الْهَدْيَ فِي وَجْهِهِ) فلما رآها وسمع الصحابة وهم يُلَبُّونَ، قَالَ: سُبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيت، فرجع ولم يصلْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "يا معشر قريش: قد رأيت ما لا يحلّ صدّه، فقالوا: اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك"! ثم جاء عروة بن مسعود، فقال: أي محمد، أرأيت إن اسْتَأصَلْتَ قومك، هل سمعتَ بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوهًا، وأرى أوباشًا من الناس لكأني بهم قد انكشفوا عنك غدًا، فقال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟ ثم كلّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما كلّم به أصحابه، فأخبره أنه لم يأتِ يريدُ حربًا، ثم قام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه: "إِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَلَا يَبْصُقُ بُصَاقَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَلَا يَسْقُطُ مِنْ شَعَرِهِ شَيْءٌ إِلَّا أَخَذُوهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَكَلَّمُوا خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ"[ 2 ]، فرجع إلى قريش فقال: "يا معشر قريش، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت مَلِكًا قطّ يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحابُ محمدٍ محمدًا، فلقد رأيت قومًا لا يُسْلِمونه لشيء أبدًا، وإنّه قد عرض عليكم خُطّة رشدٍ فاقبلوها". فأرسلت قريش سُهَيل بن عَمْرٍو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ)، (قَدْ أَرَادَ الْقَوْمُ الصُّلْحَ حِينَ بَعَثُوا هَذَا الرَّجُلَ) فلمّا انتهَى إلى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تكلَّما، وَأَطَالَا الكلامَ، وَتَرَاجَعا حتَّى جَرَى بينهما الصلح، وأُمِر عليٌّ رضي الله عنه بالكتابة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، قال سهيل: أمّا الرحمن، فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللهُمَّ) ثم قال: (هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ البَيْتِ، فَنَطُوفَ بِهِ)، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنّا أُخذنا ضُغْطَة، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب، فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، قال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلمًا؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يمشي مشيًا بطيئًا بسبب قيوده، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّا لَمْ نَقْضِ الكِتَابَ بَعْدُ)، قال: فوالله إذًا لم أصالحك على شيء أبدًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فَأَجِزْهُ لِي)، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: (بَلَى فَافْعَل)، قال: ما أنا بفاعل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يَا أَبَا جَنْدَلٍ، اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللهَ عز وجل جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا، فَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَعْطَوْنَا عَلَيْهِ عَهْدًا، وَإِنَّا لَنْ نَغْدِرَ بِهِمْ). وقد اغتمّ المسلمون لهذا الشرط المُجحف وكرهوه، وقالوا: يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال: (نَعَمْ، إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا) ولما فَرَغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتابة الصلح، قال لأصحابه: (قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا)، فما قام منهم رجل! حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة رضي الله عنها فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله، أتُحبّ ذلك، اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك: نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الصحابة ذلك قاموا، فنحروا وحلقوا رؤوسهم. ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه إلى المدينة أنزل الله عليه قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (2) وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا}[الفتح: 1-5]، فقال صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا).
محمد بن عبد الوهاب - مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَهَّابِ بنِ سُلَيْمَانَ التَّمِيْمِيُّ (1115 - 1206هـ) (1703م - 1791م) عالم دين سني حنبلي، يعتبره البعض من مجددي الدين الإسلامي في شبه الجزيرة العربية حيث شرع في دعوة المسلمين للتخلص من البدع والخرافات ونبذ الشرك التي انتشرت في أطراف الدولة العثمانية حول ولاية الحجاز وولاية اليمن والربع الخالي. ولد في العيينة وسط نجد سنة 1115 هـ الموافق من عام 1703م، لأسرة ينسب إليها عدد من علماء الدين، كان جدُّه سليمان بن علي بن مشرف من أشهر العلماء في الجزيرة العربية في عصره، وكذلك كان والده عالمًا فقيهًا على مذهب الإمام أحمد بن حنبل وأحد القضاة المعروفين، فقد تولَّى القضاء في عدَّة جهات؛ مثل: العيينة وحريملاء، وكان عمُّه الشيخ إبراهيم بن سليمان من مشاهير العلماء في تلك البلاد. ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ التوحيد ❝ ❞ التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ❝ ❞ التوحيد ( طبعة متميزة ) ❝ ❞ كشف الشبهات في التوحيد ❝ ❞ مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ❝ ❞ الأصول الثلاثة وشروط الصلاة والقواعد الأربع وكتاب التوحيد وكشف الشبهات والواجبات المتحتمات والأربعون النووية ❝ ❞ بداية سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ❝ ❞ متن نواقض الإسلام ❝ ❞ إعلام الأنام بشرح كتاب فضل الإسلام ❝ الناشرين : ❞ مكتبة الملك فهد الوطنية ❝ ❞ موقع دار الإسلام ❝ ❞ دار الإسلام للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار طيبة للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار القاسم للنشر والتوزيع ❝ ❞ مكتبة العلوم والحكم ❝ ❞ جامعة الملك سعود ❝ ❞ مكتبة الاسدى للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار الإيمان للطبع والنشر والتوزيع ❝ ❞ مكتب الدعوة بالربوة ❝ ❞ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ❝ ❞ وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - السعودية ❝ ❞ مكتبة التوبة ❝ ❞ دار العقيدة ❝ ❞ وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد ❝ ❞ دار العلم ❝ ❞ دار المؤيد ❝ ❞ وزارة الشئون الاسلامية ❝ ❞ المركز الإسلامي للطباعة والنشر ❝ ❞ دار أنس بن مالك للنشر و التوزيع ❝ ❱
من كتب إسلامية متنوعة - مكتبة كتب إسلامية.

وصف الكتاب : مثّل صلح الحديبية حدثاً مهماً في حياة المسلمين، ومنعطفاً بارزاً في مسيرتهم الدعوية والجهادية. وقد حمل هذا الصلح -والأحداث التي أحاطت به- الكثيرَ من الأحكام المتعلقة بالجهاد في سبيل الله، والاتفاقيات والمعاهدات التي يمكن للمسلمين أن يعقدوها مع الأعداء إذا تحققت المصلحة، وأعطاهم دروساً في فنون التفاوض، وفي فقه الموازنات.

وقد كان من بين بنود هذا الصلح أمور عدّها بعض المسلمين تنازلات غير مقبولة، لكنّ الرسول صلى الله عليه وسلم بحكمته وحنكته رأى فيها مصلحة وعزًا ونصرًا للمسلمين في القريب العاجل.

رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأنهم يطوفون بالبيت، فأخبر أصحابه بذلك، ففرحوا فرحًا شديدًا، فقد اشتد بهم الحنين إلى مكة، وإلى أداء العمرة التي حُرموا منها سنوات وسنوات. وقد طمعوا في تحقق ذلك قريبًا، فرؤيا الأنبياء حق.

خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة سنة ستٍ من الهجرة، في ألف وأربعمئة من أصحابه من المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من العرب، وكانت بصحبته زوجته أم سلمة رضي الله عنها، وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة من ذي الحليفة، ليعلم الناس أنه إنما خرج زائرًا لهذا البيت ومعظمًا له، وأنه لا يريد حربًا.

وحين وصل إلى عسفان -مكان بين مكة والمدينة- أخبره بشر بن سفيان الكعبي أن قريشًا قد استعدّت لصدّه عن البيت، ومنْعِه من دخول مكة، فحاول النبي صلى الله عليه وسلم تجنّبهم، وسلك طريقًا آخر وعرًا بين الشعاب، فلما وصل إلى الحديبية بركت ناقته، فأقام في ذلك المكان، وأعلن النبي صلى الله عليه وسلم منهجه في التعامل مع قريش: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا).

أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قريش خراش بن أمية الخزاعي، فلما دخل مكة عقرت به قريش، وأرادوا قتله فمنعهم الأحابيش، فعاد خراش بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما صنعت قريش.

ثم أرسلَ عثمانَ رضي الله عنه، وقال له: (أخْبرهُم أَنّا لم نأت لقِتَال أحد، وَإِنَّمَا جِئْنَا زوّارا لهَذَا الْبَيْت معظمين لِحُرْمَتِهِ، مَعنا الْهَدْي نَنْحَره ونَنْصَرف). فقدم عثمان مكة، وأخبر قريشًا برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا، وعرضوا عليه أن يطوف بالبيت فأبى، ولقي –كما أمره رسول الله صل الله عليه وسلم- المستضعفين من المسلمين بمكة وبشّرهم بقرب الفرج والمخرج.

تأخر عثمان رضي الله عنه في الرجوع إلى المسلمين، وشاع أنه قد قُتل، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، وكان جالسًا تحت الشجرة، فبايعه الصحابة على أن لا يفرّوا، وهذه هي بيعة الرضوان التي نزل فيها قول الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً}[الفتح:18].

بدأت الرسل بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فجاء بُديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، فحمّله رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة لقريش مفادها: (إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الحَرْبُ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ: فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ).

ثم جاء رجل من بني كنانة يقال له مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هَذَا مِكْرَزٌ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ)، فكلّمه ثم عاد إلى قريش، فأرسلوا إليه الحِلْسَ بنَ عَلقَمَةَ الكِنَانِيَّ -وهو يومئذ سيد الأَحَابِيش- فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَتَأَلّهونَ –أي يعظّمون الهَدْيَ- فَابْعَثُوا الْهَدْيَ فِي وَجْهِهِ) فلما رآها وسمع الصحابة وهم يُلَبُّونَ، قَالَ: سُبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيت، فرجع ولم يصلْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "يا معشر قريش: قد رأيت ما لا يحلّ صدّه، فقالوا: اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك"!

ثم جاء عروة بن مسعود، فقال: أي محمد، أرأيت إن اسْتَأصَلْتَ قومك، هل سمعتَ بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوهًا، وأرى أوباشًا من الناس لكأني بهم قد انكشفوا عنك غدًا، فقال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟ ثم كلّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما كلّم به أصحابه، فأخبره أنه لم يأتِ يريدُ حربًا، ثم قام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه: "إِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَلَا يَبْصُقُ بُصَاقَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَلَا يَسْقُطُ مِنْ شَعَرِهِ شَيْءٌ إِلَّا أَخَذُوهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَكَلَّمُوا خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ"[ 2 ]، فرجع إلى قريش فقال: "يا معشر قريش، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت مَلِكًا قطّ يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحابُ محمدٍ محمدًا، فلقد رأيت قومًا لا يُسْلِمونه لشيء أبدًا، وإنّه قد عرض عليكم خُطّة رشدٍ فاقبلوها".

فأرسلت قريش سُهَيل بن عَمْرٍو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ)، (قَدْ أَرَادَ الْقَوْمُ الصُّلْحَ حِينَ بَعَثُوا هَذَا الرَّجُلَ) فلمّا انتهَى إلى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تكلَّما، وَأَطَالَا الكلامَ، وَتَرَاجَعا حتَّى جَرَى بينهما الصلح، وأُمِر عليٌّ رضي الله عنه بالكتابة.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، قال سهيل: أمّا الرحمن، فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللهُمَّ) ثم قال: (هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ البَيْتِ، فَنَطُوفَ بِهِ)، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنّا أُخذنا ضُغْطَة، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب، فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، قال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلمًا؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يمشي مشيًا بطيئًا بسبب قيوده، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّا لَمْ نَقْضِ الكِتَابَ بَعْدُ)، قال: فوالله إذًا لم أصالحك على شيء أبدًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فَأَجِزْهُ لِي)، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: (بَلَى فَافْعَل)، قال: ما أنا بفاعل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يَا أَبَا جَنْدَلٍ، اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللهَ عز وجل جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا، فَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَعْطَوْنَا عَلَيْهِ عَهْدًا، وَإِنَّا لَنْ نَغْدِرَ بِهِمْ).

وقد اغتمّ المسلمون لهذا الشرط المُجحف وكرهوه، وقالوا: يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال: (نَعَمْ، إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا)

ولما فَرَغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتابة الصلح، قال لأصحابه: (قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا)، فما قام منهم رجل! حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة رضي الله عنها فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله، أتُحبّ ذلك، اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك: نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الصحابة ذلك قاموا، فنحروا وحلقوا رؤوسهم.

ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه إلى المدينة أنزل الله عليه قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (2) وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا}[الفتح: 1-5]، فقال صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا).


للكاتب/المؤلف : محمد بن عبد الوهاب .
دار النشر : .
عدد مرات التحميل : 7112 مرّة / مرات.
تم اضافته في : الأحد , 24 مارس 2019م.
حجم الكتاب عند التحميل : 225.6 كيلوبايت .

ولتسجيل ملاحظاتك ورأيك حول الكتاب يمكنك المشاركه في التعليقات من هنا:

نبذه عن الكتاب:
نتج عن هذا الصلح اتفاق سمّي "صلح الحديبية" وكانت بنوده تنص على:

    وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، ويكفّ بعضهم عن بعض.
    يردّ المسلمون من يأتي إليهم من قريش مسلمًا دون علم أهله، وأن لا ترد قريش من يأتيها مرتدًا.
    من أحبّ من القبائل أن يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
    يرجع النبي صلى الله عليه وسلم عن مكة عامه ذاك فلا يدخلها، على أن يعود العام القابل فيعتمر.وتضمّن هذا البند بعض التفاصيل، منها: أن تخرج قريش من الحرم ليدخله النبي صلى الله عليه وأصحابه، ليس معهم من السلاح إلا سلاح الراكب، وتكون السيوف في القُرُب، ويبقى في مكة ثلاثة أيام.
    ترك المؤاخذة بما تقدم بين الفريقين من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على الصلح. والتأكيد على ذلك بمنع ما يؤدي إلى رجوع الحرب بين الفريقين.

ثالثًا: الفوائد والدروس والعبر:

     1. أحكامُ الصلح والمعاهدات أحكامٌ شرعية تؤخذ من الكتاب والسنّة، لذا كان صلح الحديبية من أهم ما يعتمد عليه في هذا الباب، والفوائد والدروس والعبر التي تستخلص منه في غاية الأهمية.

قال ابن القيم رحمه الله: "أخذُ الأحكامِ المتعلّقةِ بالحربِ، ومصالحِ الإسلامِ وأهلهِ وأمرهِ، وأمورِ السياساتِ الشرعيةِ من سيَره ومغازِيهِ أولى مِن أخْذِهَا من آراءِ الرّجالِ"[ 3 ].

     2. مشروعية المبادرة بطلب الصلح، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى المصلحة في عقد الصلح ابتدأ بطلبه وسارع إليه، قال ابن القيم رحمه الله: "فيه جواز ابتداء الإمام بطلب صلح العدو، إذا رأى المصلحة للمسلمين فيه، ولا يتوقف ذلك على أن يكون ابتداء الطلب منهم"[ 4 ].

     3. مشروعية عقد الصلح مع الأعداء إذا كان فيه مصلحة للمسلمين، وفي صلح الحديبية تحققت مصالح عظيمة للمسلمين لم تكن لتتحقق بالحرب.

فمن هذه المصالح: توقّف الحرب وحصول الأمن والأمان، وهذا مطلب إسلامي أصيل، تدل عليه نصوص القرآن والسنّة.

ومنها: الاعتراف بالمسلمين كقوّة لها وزنها، يتم التفاوض معها، ومنحهم مكاسب مهمّة ولو كانت قليلة أو مؤجّلة، كدخول مكّة، وإظهار الحلفاء من القبائل، وانضمام غيرهم معهم.

ومنها: تحييد الأعداء للتفرّغ لأمور مهمة أخرى، كنشر الدعوة، وتثبيت دعائم الدولة، وإقامة العدل، وتحقيق السلم، وحقن الدماء وصيانة الأعراض.

قال ابن القيم رحمه الله: "هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوح، فإن الناس أمن بعضهم بعضًا، واختلط المسلمون بالكفار، وبادؤوهم بالدعوة وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وظهر من كان مختفيًا بالإسلام، ودخل فيه في مدة الهدنة من شاء الله أن يدخل، ولهذا سماه الله فتحًا مبينًا"[ 5 ].

وقال النووي رحمه الله: "قال العلماء: والمصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح ما ظهر من ثمراته الباهرة وفوائده المتظاهرة، التي كانت عاقبتها فتح مكة وإسلام أهلها كلها ودخول الناس في دين الله أفواجًا، وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين ولا تتظاهر عندهم أمور النبي صلى الله عليه وسلم كما هي، ولا يحلّون بمن يعلمهم بها مفصلة، فلمّا حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين وجاءوا إلى المدينة وذهب المسلمون إلى مكة وحلّوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونه، وسمعوا منهم أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مفصّلة بجزئياتها، ومعجزاته الظاهرة وأعلام نبوته المتظاهرة، وحسن سيرته وجميل طريقته، وعاينوا بأنفسهم كثيرًا من ذلك، فمالت نفوسهم إلى الإيمان حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة، وازداد الآخرون ميلًا إلى الإسلام، فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم لما كان قد تمهد لهم من الميل، وكانت العرب من غير قريش في البوادي ينتظرون بإسلامهم إسلام قريش، فلما أسلمت قريش أسلمت العرب في البوادي، قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}[النصر: 1-2]"[ 6 ].    

     4. مشروعية عقد الصلح مع الأعداء ولو كان في المسلمين قوّة وعزّة، لكنها قوة لا تكفي لاسترجاع الحق واسترداد الأرض وقهر العدو، فقبل الحديبية بسنة وقعت معركة الأحزاب، وهُزم المشركون هزيمة منكرة، حتى قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: (الْآنَ نَغْزُوهُمْ، وَلَا يَغْزُونَا)[ 7 ]. لكنّ هذه القوة مازالت ناشئة، والأعداء يحيطون بالمسلمين من كل جانب.

فإذا كان المسلمون في حال ضعف ومهانة وقد تكالب عليهم الأعداء، فعقد الصلح جائز من باب أولى، حفاظًا على دمائهم وأعراضهم وأموالهم وقوتهم.

     5. عقد الهدنة والصلح لا يعني بالضرورة الحصول على كافّة المكاسب، ولا استعادة كل الحقوق المسلوبة! فالنبي صلى الله عليه وسلّم قَبِلَ –من خلال صلح الحديبية- بزيارة مكّة ثلاثة أيام لا أكثر، في حين أن ديار المسلمين وأموالهم التي خلّفوها في مكة ما تزال بيد الكفّار، بل إن بعض المسلمين ما يزالون تحت سطوة المشركين مضطهدين مغلوبين على أمرهم.

وفي هذا دلالة على أنه يجوز للمسلمين أن يعقدوا مع الأعداء هدنة إذا كان فيها مصلحة للمسلمين، ولا يشترط في الصلح أن يحقق كل المصالح!

كما أن تحقيق بعض المصالح لا يعني بحال من الأحوال التنازل عمّا لا يشمله الاتفاق من البنود، كالتنازل عن أرض المسلمين، أو مصير أسراهم، أو نحو ذلك، فإن حصل مثل هذا التنازل والإقرار للعدو فلا شك في أنه لا يجوز.

معنى الاسلام
ما هو الاسلام
ما هو الاسلام الصحيح
شرح تعريف الاسلام
معلومات عن الاسلام
بحث عن الدين الاسلامي
تعريف الاسلام للاطفال
موقع الاسلام

مفهوم الدين pdf
معنى الدين
الدين الاسلامي
ما هو الدين الحقيقي في العالم
المعتقدات الدينية الاسلامية
الدين المال
تعريف الدين الحق
بحث عن الدين

 



نوع الكتاب : pdf.
اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل بعض فوائد صلح الحديبية
محمد بن عبد الوهاب
محمد بن عبد الوهاب
Mohammed bin AbdulWahab
مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَهَّابِ بنِ سُلَيْمَانَ التَّمِيْمِيُّ (1115 - 1206هـ) (1703م - 1791م) عالم دين سني حنبلي، يعتبره البعض من مجددي الدين الإسلامي في شبه الجزيرة العربية حيث شرع في دعوة المسلمين للتخلص من البدع والخرافات ونبذ الشرك التي انتشرت في أطراف الدولة العثمانية حول ولاية الحجاز وولاية اليمن والربع الخالي. ولد في العيينة وسط نجد سنة 1115 هـ الموافق من عام 1703م، لأسرة ينسب إليها عدد من علماء الدين، كان جدُّه سليمان بن علي بن مشرف من أشهر العلماء في الجزيرة العربية في عصره، وكذلك كان والده عالمًا فقيهًا على مذهب الإمام أحمد بن حنبل وأحد القضاة المعروفين، فقد تولَّى القضاء في عدَّة جهات؛ مثل: العيينة وحريملاء، وكان عمُّه الشيخ إبراهيم بن سليمان من مشاهير العلماء في تلك البلاد. ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ التوحيد ❝ ❞ التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ❝ ❞ التوحيد ( طبعة متميزة ) ❝ ❞ كشف الشبهات في التوحيد ❝ ❞ مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ❝ ❞ الأصول الثلاثة وشروط الصلاة والقواعد الأربع وكتاب التوحيد وكشف الشبهات والواجبات المتحتمات والأربعون النووية ❝ ❞ بداية سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ❝ ❞ متن نواقض الإسلام ❝ ❞ إعلام الأنام بشرح كتاب فضل الإسلام ❝ الناشرين : ❞ مكتبة الملك فهد الوطنية ❝ ❞ موقع دار الإسلام ❝ ❞ دار الإسلام للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار طيبة للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار القاسم للنشر والتوزيع ❝ ❞ مكتبة العلوم والحكم ❝ ❞ جامعة الملك سعود ❝ ❞ مكتبة الاسدى للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار الإيمان للطبع والنشر والتوزيع ❝ ❞ مكتب الدعوة بالربوة ❝ ❞ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ❝ ❞ وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - السعودية ❝ ❞ مكتبة التوبة ❝ ❞ دار العقيدة ❝ ❞ وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد ❝ ❞ دار العلم ❝ ❞ دار المؤيد ❝ ❞ وزارة الشئون الاسلامية ❝ ❞ المركز الإسلامي للطباعة والنشر ❝ ❞ دار أنس بن مالك للنشر و التوزيع ❝ ❱.



كتب اخرى في كتب إسلامية متنوعة

حكم الشرب قائماً PDF

قراءة و تحميل كتاب حكم الشرب قائماً PDF مجانا

لماذا يكرهونه الاصول الفكرية لعلاقة الغرب بنبي الاسلام صلى الله عليه و سلم PDF

قراءة و تحميل كتاب لماذا يكرهونه الاصول الفكرية لعلاقة الغرب بنبي الاسلام صلى الله عليه و سلم PDF مجانا

رمضاني والقراءة PDF

قراءة و تحميل كتاب رمضاني والقراءة PDF مجانا

السيرة النبوية في دائرة المعارف البريطانية دراسة تحليلية لما كُتب تحت مادة: محمد النبي ورسالته PDF

قراءة و تحميل كتاب السيرة النبوية في دائرة المعارف البريطانية دراسة تحليلية لما كُتب تحت مادة: محمد النبي ورسالته PDF مجانا

المسلمون وضرورة الوعي التاريخي PDF

قراءة و تحميل كتاب المسلمون وضرورة الوعي التاريخي PDF مجانا

أصول الكمال الإنساني PDF

قراءة و تحميل كتاب أصول الكمال الإنساني PDF مجانا

أحكام اللمس في الطهارة PDF

قراءة و تحميل كتاب أحكام اللمس في الطهارة PDF مجانا

الطريق إلى النجاة PDF

قراءة و تحميل كتاب الطريق إلى النجاة PDF مجانا

المزيد من كتب علوم القرآن في مكتبة كتب علوم القرآن , المزيد من كتب إسلامية متنوعة في مكتبة كتب إسلامية متنوعة , المزيد من إسلامية متنوعة في مكتبة إسلامية متنوعة , المزيد من كتب الفقه العام في مكتبة كتب الفقه العام , المزيد من كتب التوحيد والعقيدة في مكتبة كتب التوحيد والعقيدة , المزيد من مؤلفات حول الحديث النبوي الشريف في مكتبة مؤلفات حول الحديث النبوي الشريف , المزيد من كتب أصول الفقه وقواعده في مكتبة كتب أصول الفقه وقواعده , المزيد من التراجم والأعلام في مكتبة التراجم والأعلام , المزيد من السنة النبوية الشريفة في مكتبة السنة النبوية الشريفة
عرض كل كتب إسلامية ..
اقرأ المزيد في مكتبة كتب إسلامية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب تقنية المعلومات , اقرأ المزيد في مكتبة المناهج التعليمية والكتب الدراسية , اقرأ المزيد في مكتبة القصص والروايات والمجلّات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الهندسة والتكنولوجيا , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب والموسوعات العامة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب تعلم اللغات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب التنمية البشرية , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب التعليمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب التاريخ , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأطفال قصص ومجلات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الطب , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب العلمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب علوم سياسية وقانونية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأدب , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الروايات الأجنبية والعالمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب اللياقة البدنية والصحة العامة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأسرة والتربية الطبخ والديكور , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب الغير مصنّفة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب المعاجم واللغات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب علوم عسكرية و قانون دولي
جميع مكتبات الكتب ..